تهدف الصحة النفسية تطبيقيًا إلى الوقاية من الاضطرابات النفسية أولاً، وعلاج الإضطرابات النفسية والمحافظة على إستمرار الصحة والتكيف الأفضل ثانيًا، وفي الجانب الأول نعمل على تحديد الجوانب التي يمكن أن تسبب الإضطرابات، ثم نعمل على إزالتها وإبعاد الأفراد عنها مع توفير الشروط العامة التي تعطي الفرد قوة عملية لمواجهة الظروف الصعبة، وفي الجانب الثاني تقوم المؤسسات المتخصصة بدعم الفرد من جهة، وعلاج مشكلاته النفسية التي يمكن أن توجد لديه من الجهة الثانية، ثم مرافقته لخطوات من أجل التأكد من حسن عودته إلى أسلم وضع وإلى إنتظام ذلك في شروط الحياة المختلفة.
وفي مجال المسنين فإن الشيخوخة تقترن بالإستهلاك التدريجي للأعضاء والتغيرات الحيوية التي تطرأ على الجسم والتي ترافق الشيخوخة، وهكذا فإنه من الطبيعي أن يحدث هذا التدهور في إستهلاك العضلات كمرحلة من مراحل الحياة. قال تعالى {اللَّهٍ الَّذٌي خّلّقّكٍم من ضّعًفُ ثٍمَّ جّعّلّ مٌنً بّعًدٌ ضّعًفُ قٍوَّةْ ثٍمَّ جّعّلّ مٌنً بّعًدٌ قٍوَّةُ ضّعًفْا وّشّيًبّةْ يّخًلٍقٍ مّا يّشّاءٍ وهٍوّ الًعّلٌيمٍ القّدٌيرٍ} [الروم:54].
يعانى كبار السن أي من هم فوق الستون أو الخامسة وستون من الأمراض النفسية التي يعاني منها الأصغر سنا، بل إن نسبة الإصابة ببعض الأمراض النفسية مثل الإكتئاب النفسي والزهايمر وتصلب شرايين المخ تزيد عند كبار السن ويرجع ذلك لعدة أسباب:
=أولا: أن التقدم في العمر يحمل معه أمراضا للسن تؤثر على المخ والصحة النفسية والصحة العامة.
=ثانيا: أن التقدم في العمر يحمل في طياته بعض الأحداث والتغيرات التي قد تكون سلبيه.
في هذا السن غالبا ما يحال كبار السن إلى التقاعد ويتبع هذا أن يفقد الإنسان بعضا من إحساسه بقيمته في الحياة خاصة إذا كان إحساسه بذاته مستمدا بصورة كبيرة من عمله، كما أن الإنسان يفقد بتقاعده عن العمل أحد أهم وسائل الإحتكاك الإجتماعى فإن العمل ليس وسيلة للكسب والإحساس بالذات فقط بل إنه في العمل يلتقي الإنسان بزملاء وأصدقاء فكثير من الصداقات تتكون عن طريق العمل، بل ويجري في العمل كثير من الأحاديث والمناقشات والفكاهة والإستماع إلى مشاكل الآخرين وإستماعهم لمشاكلك.
وتحتاج خدمات الصحة النفسية للمسنين لحسن التوجيه نفسيًا ومهنيًا واجتماعيًا للوقاية من مشكلات منظورة قبل وقوعها أو لعلاج مشكلات قائمة يعاني منها المسنون، ولابد لنا في البداية من معرفة مميزات الحياة النفسية للمسن.
¤ أهم جوانب حياة المسن ومميزاتها:
ـ قد تمتد فترة الشيخوخة عشرات السنين، قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من طال عمره وحسن عمله.. وشركم من طال عمره وساء عمله».
ـ يعاني المسن ضعفًا جسميًا عامًا في الإحساس والعضلات والعظام والنشاط الجسمي الداخلي -هضمي وبولي ودموي وجلدي- وضعفًا عامًا في البصر.. وبدء ظهور الترهلات، وأعراض الشيخوخة هذه تظهر على كل إنسان..
ـ نضوج علمي وغزارة وثراء فكري، حيث إن كبارالعلماء خير إنتاجهم الفكري في هذه المرحلة ما بعد الستين، ويكون لدى المسن أيضًا ثراء شخصي بالخبرة الذاتية مع الآخرين حيث يفهم الحياة فهمًا واقعيًا ويدرك الحياة بعيدًا عن الخيال وبواقعية عملية.
ـ صلابة نفسية وإجتماعية في الإتجاهات، يصعب معها التكيف والتوافق النفسي للمسن مع مستجدات الحياة وما تتطلبه من علاقات وأنماط سلوكية جديدة مع أجيال عدة، وهو ما يجعله يعاني صعوبات التوافق الضروري للحياة الهادئة. قال تعالى: {وّمّن نعمره ننكسه فٌي الًخّلًقٌ أّفّلا يّعًقٌلٍونّ} [يس:68].
¤ أهم مشكلات كبار السن:
عدد كبير من المسنين عرضة لمشكلات مزمنة ولابد لهم من معايشتها بصبر وهدوء للتخفيف من أضرارها، والمشكلات يمكن أن تكون إنفعالية وجدانية كالشعور بالفشل أو الإحباط، وهو ما يؤدي إلى أن تغلب على هؤلاء روح التشاؤم، وقد يصل ببعضهم إلى الشك بأقرب المقربين إليهم، ويكون سلوكهم متسمًا بالشك والحذر والحساسية والتأثر الإنفعالي.
وهناك مشكلات ذهنية فكرية وذلك نتيجة ضعف الحواس وضعف الإنتباه وعدم القدرة على التركيز، مما يضعف المدركات بالإضافة إلى ضيق الإهتمام وإلى ضعف الذاكرة وتشتتها وسرعة النسيان، وهو ما يجعل الفرد يتمركز بشكل محوري في تفكيره حول شيء، الأمر الذي يبدو شبيهًا بالوسوسة أو الهلوسة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ.... } [الحج:5].
وأما المشكلات الصحية فإن أمراض الشيخوخة تعتبر أكثر خطورة لضعف مقاومة الجسم لدى المسن وشدة تأثره وضعفه، وهو ما يقلل فرص إجراء جراحات ضرورية لصحته، كما أن ضعف الجسم عمومًا يظهر لديه أمراضًا ومشكلات جسدية مثل أمراض القلب والشرايين وهشاشة العظام والكسور والأمراض الجلدية والحسية وغيرها، وقد يظهر لدى المريض توهم بالأمراض وتركيز زائد على الصحة حيث ينظر للعرض البسيط بأنه خطير، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4].
وهناك مشكلات إقتصادية يعانيها المسنون لنقص مواردهم المالية، ولضعف الأداء لديهم، أو للتقاعد، أو لترك العمل، وهذا في حد ذاته مشكلة نفسية وإجتماعية وصحية وإقتصادية بأبعادها المؤثرة والمتأثرة.
وأما المشكلات الإجتماعية فإن ازدياد العمر يقلل من الأصدقاء بسبب تفرقهم إما بالبعد وإما بالوفاة وإما بالسفر، وكذلك الأولاد لانهماكهم في شؤون الحياة، وأما شريك الحياة الزوجية فقد يتوفى وبالتالي يظل المسن يعاني الوحدة وآثارها النفسية، وكذلك فإن عددًا غير قليل من المسنين يعاني الصلابة الإجتماعية لصعوبة تكيفه وتبنيه أنماطًا جديدة في السلوك والتفكير في الوقاية من مشكلات الشيخوخة.
ويتمثل علاجها في مايلي:
لقد سبق الإسلام بوضع الإجراءات الوقائية من مشكلات الشيخوخة وأولاها إهتمامه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إغتنم خمسًا قبل خمس حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك» رواه الشيخان.
كما أوجب الإسلام على الأولاد بر الوالدين والإحسان إليهم ورسخه في نفوس الأمة، والتركيز على ذلك يساعد في الوقاية من بعض المشاكل النفسية للمسن، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:23-25].
كما أوجب الإسلام إحترام كبار السن وتوقيرهم وحث عليه قال صلى الله عليه وسلم: «ما أكرم شاب شيخًا من أجل سنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه» رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم» رواه أبو داود والبيهقي، وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر» رواه الترمذي.
كما أوجب الإسلام الرعاية الصحية بالفحص الطبي والدوري للكشف عن أي مشكلات صحية في بدايتها، وقبل إستفحالها، والوقاية من العدوى، والإهتمام الصحي الجيد والوقاية من المرض بشكل أكبر عند المسن وذلك لنقص مقاومته وضعفها، قال صلى الله عليه وسلم «يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء».
ويجب رعاية المسن والإهتمام به أولاً بأول في حل المشكلات أو إشباع الحاجات، ولابد من عمل برنامج نشاط حركي جسمي وذهني عقلي له لمساعدته على روح التفاؤل ليعيش شيخوخته بأوسع وأكمل شيء ممكن، ولابد من الإهتمام بالعمر العقلي ومراعاته وكذلك العمر التحصيلي والمستوى الفسيولوجي والإنفعالي والإجتماعي والجنسي، فالشيخوخة لا تعد بالعمر الزمني فقط.
ويجب تشجيع المسن على البحث والإطلاع حتى نبقي ذاكرته متنبهة، ونشجعه على تحديد أهداف للمستقبل يسعى لتحقيقها، ونحثه على السعي لذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من طال عمره وحسن عمله».
الكاتب: د. العربي عطاء الله العربي.
المصدر: موقع المستشار.